الأبواب البيضاء

الرعب في الحياة الحقيقية لا يأتي فجأة، إنه ليس صدمة ولا صراخ رهيب. 
الرعب في الحياة الحقيقية هو إدراك يحدث على مر السنوات، إنه يحتاج الوقت ليتعفن، يضمحل وينتشر. الرعب الحقيقي مؤلم، غالباً مُحزن و مأساوي. إنه تدهور بطيء يُبعدك عن كل أشكال الراحة والسعادة. إنه نوع الرعب الذي شعرت به منذ علمت بموت والدتي.

ملابسات موتها لم تجعل الأمور سهلة أيضاً. لم يكن موتاً بطيئاً للتعويض، التكيف أو حتى الوداع. لم تصارع المرض لسنوات، لم تكن كبيرة بالسن وتقترب من نهاية حياتها. موتها أتى سريعاً و بشكلٍ غير متوقع. 




أمي، وبعد طلاقها ورحيل أخوتي من المنزل عاشت لوحدها. أمضت وقتها بالعمل التطوعي و العناية بأبويها. في آخر زيارتين لي لاحظت أنها تبدو أكثر هشاشة بالنسبة لإمرأة بعمرها. كانت قد خسرت بعض الوزن و متتوقة للزوار. كان هناك أيضاً نظرةً في عينيها أزعجتني، كانتا مفتقدتان للنوم، مرتعبتان و محطمتنان. بدت كأنها تريد إخباري بأمر ما لكنها لا تستطيع. بدلاً من هذا كانت تغير المووع سريعاً وهي تبتسم بحزن. لقد أُخبرت أن أخي وجدها في ليلة متأخرة من أوكتوبر، محبوسة في حمام الطابق السفلي، مستلقية في بركة دمائها ومعصميها مفتوحين. كان عمرها ثلاثة وستين سنة. 

بما أنها كانت إمرأة كاثوليكية متدينة، فلقد كانت تعرف أن الإنتحار ذنب، ولأنها متدينة كنت أعرف أن هناك شيئاً غريباً قد تدخل بموتها. لا أقصد شيئاً مخزياً كفضيحةٍ مثلاً ولكن شيءٌ عليل وغير مريح كان ينتابني كشعور منذ أيام الطفولة. شيء مرتبطٌ بمنزل العائلة وبالأخص الأبواب الخشبية القديمة. 

كل شيء بدأ بالنوم المتقلب والغير مريح، طوال حياتي كانت تواجهني الصعوبة بالإستغراق في النوم في منزل والديّ. كانت جدتي تقول لي أنني حين كنت طفلاً صغيراً كنت أتعرض لنوبات ذعر حين أنام. كانت تعتني بي في النهار أثناء تواجد والديّ في العمل وفي المساء عندما يخرجان للسهر وتناول العشاء. أخبرتني أنها كانت تعتني بي في اليوم الذي ضربت مدينتنا عاصفة قوية، إعصارٌ كاد يفتك بحينا ولكن لحسن الحظ لم ينزل كما كان متوقعاً. ولكن انقطعت الكهرباء بسبب الرعد. أسرعت جدتي لغرفتي وهي خائفة من تحطم النافذة التي تقع فوق مهدي بسبب الرياح القوية. وكان هناك أمرٌ آخر أخافها، عندما حملتني جدتي من المهد ، شعرت بوجود شيءٍ بالغرفة، شيءٍ جديد، مختلف ومظلم. جدتي، التي هاجرت مع عائلتها من ايطاليا عندما كانت طفلة، أخبرت والديّ أنها شعرت بحضور مخيف في تلك الليلة و ترجتهما أن تحاول إخراج هذا الشيء ببعض الخرافات التي تعلمتها كطفلة. ولكن والديّ، اللذان كانا متدينان رفضا الإيمان بهذه الخرافات. 

كلما كبرت كلما ازدادت نوبات الذعر وتحولت إلى كوابيس. لم يكن من الغريب بالنسبة لي أن أستيقظ بعد ساعات من النوم وأجلس خائفاً من الرجوع الى النوم . لاحقاً في الثانوية العامة تعاملت مع أرقي بالشكل التالي، كنت لا أنام لأيام فقط لأنام ليلة واحدة بعدها بسرعة كبيرة جراء التعب من الليالي الماضية. لم أرتح أبداً إلا بعد أن ذهبت الى الجامعة. 

لقد كنت ألوم صعوبة النوم لدي طوال حياتي في منزل والديّ الي الأبواب في ذلك المنزل، كانت أبواباً خشبية كبيرة جافة، بدون أي زخرفات أو ديكورات. بدت أبواباً شيطانية ولا شيء أقل. كنت أمضي ساعاتٍ أحدق بهذه الأبواب الفارغة كما يحدق المرء بالغيوم في السماء تماماً. كلما حدقت أكثر كلما رأيت أكثر حتى أصبحت الصورة واضحةً بالنسبة لي. أشكال بشرية مشوهة، بقدم واحدة و أجذع مقطعة أوكلابٍ مسعورة، أو رجلٌ عجوزٍ ملتحي. رأيت وجوهاً أيضاً، رأيتُ أعيناً جاحظة، أفواهٌ مفتوحة، أحياناً تظهر بالعقد على الباب. كلها تعاني كما لو أن أرواح هذه الأشياء كانت محبوسةً داخل خشب هذه الأبواب. 

باب الحمام في الطابق الأول كان الأسوأ. كان موقعه بجانب الباب الذي يقود الى القبو، و القفل على الباب كان ضيقاً. كان يصبح عالقاً أحياناً، أو يغلق لوحده أو يُفتح لوحده. كان باب الحمام أيضاً يحمل أغرب تصميم، في منتصف الباب كان هناك ما يبدو كأنه إمرأة تواجه ألماً عظيماً. كان وجهها مرسوماً بخطوط أفقية من الخشب. يخرج من معدتها (كما تخيلته بمخيلتي الطفولة) وحشٌ جاحظ العينين. 

كنت أرى باب الحمام في أحلامي أيضاً. لدي أحلامٌ مريعة أكون فيها أطفو وأحاول بشكل يائس أن أهرب من باب الحمام، ولكنني كنت أُسحب نحوه بقوة غير مرئية و غير قادرٍ على الهرب. كانت هذه القوة تسحبني نحو الظلام في الغرفة. كان الباب يغلق بقوة بالقفل قبل أن أستطيع الإستيقاظ والهرب من هذا الكابوس.

الكوابيس وقلة النوم لم تجعل مخيلتي إلا أكثر نشاطاً من السابق. الصور الغريبة المُتخيلة على الباب كانت تسيطر عليّ أكثر مع مرور الزمن. كان هنالك بابٌ بكل غرفةٍ في المنزل، لم أستطع الهرب منهم. كانوا حضوراً دائماً لا يستطيع أحدٌ الهرب منه.
كطفلٍ بدأت أرى أموراً أخرى، أموراً خرجت من الألواح الخشبية للأبواب. أموراً لم أستطع النظر إليها مباشرةً ولكن كنت أراها بنظري الجانبي. كانت من نوع الأشياء التي تترجاني لأراها وأعترف بها. هل كان هناك أحد أم أن مخيلتي كانت تسيطر عليّ؟

في إحدى الليالي عندما كنت في السادسة ذهبت الى غرفة والديّ وأنا أشعر بالذنب لأنني لم أكن نائماً بعد. كنت محتاجاً لأحدٍ ليطمئنني ويريحني لأنني كنت قد أخفت نفسي كثيراً في تلك الليلة. حضنتي والدتي وسألتني لم كنت مستيقظاً، أخبرتها أنني أرى أشياءً بطرف عينيّ، سألتني ما شكل هذه الأشياء. لكنني لم أرهم بشكلٍ جيد، كلما التفت إليهم يختفون. سألتني متى كانت آخر مرة رأيت فيها شيئاً، قلت لها أن هناك أحدهم الأن معنا في زاوية الغرفة. التفتت والدتي ونظرت ولم تر إلى زاويةً فارغةً في غرفتها المظلمة. أخبرتني أنه من الممكن أن يكونوا أشياءً طيبة وأنهم هنا لحمايتي لا لأذيتي. لكن هذا غير صحيح، حين أكون حولهم جسدي كلهُ يؤلمني وهم بالتأكيد أشياءٌ شريرة.

كانوا مخلوقاتٍ غيرُ متحركة، يحدقون نحوي، فقط يتحركون عندما كنت لا أنظر. يقتربون مني ببطء كلما أبعدت نظري عنهم، في البداية اكتشفتهم عندما كنت أراهم بطرف عينيّ وأنا في غرفتي ليلاً ،عندما كنت لا أستطيع النوم، كانوا يقفون على الدرج خارج غرفة نومي. كنتُ ألاحظ شكلاً مظلماً يحدقُ من أعلى الدرج، حيث لا شيء هناك. كنت أحاول حينها أن أركز عليهم، لأراهم جيداً ولكن كانوا يختفون فجأة. كنت أنظر مجدداً وأراهم قد ظهروا عند باب غرفة نومي، ثم عند المكتب، ثم فوقي تماماً.

قررت أنهم شياطين، ليسوا الشياطين ذو اللون الأحمر والقرون الذين يظهرون في أفلام الأطفال، لا، شياطينٌ من نوعٍ آخر. كانوا كباراً، مثل الكبار في السن، كأنهم وضعوا في زمنٍ غير زمنهم، كانوا خارجين عن الزمن. في الليلة التي كنت أراهم بها، كنت أخاف أن أتحرك، أو أفعل أي شيءٍ غير التحديق، لكي لا أعطيهم أي فرصةٍ للإقتراب أكثر.

أحياناً كنت أسمهعم يتحدثون في رأسي. كانوا يخبرونني أن أفعل بعض الأشياء، أن أنتظرهم في زاوية الغرفة، أو يفيضون بمئات الصور لأماكن غريبة داخل عقلي. أحياناً كنت أقوم بما يطلبون، ولكن لم ينتج عن ذلك أي شيء. ارتعبت أمي في إحدى الليالي عندما لم تستطع إيجادي، بحثت في كل المنزل لتجدني في خزانة غرفتي واقفاً مواجهاً الحائط، هناك، المكان الذي أخبرتني به الأصوات أن أنتظر فيه. كانت تبكي بشدة حين أخبرتها عن الأصوات. اشترت لي بعض الحلوى وسألتني إن كانوا الشياطين هم من يبقونني مستيقظاً طوال الليل.

لأن والديّ كانا ايطاليين من خلفية متدينة، فلقد صدقوا كلامي وآمنوا تماماً أن ما أراه هو الشياطين، وأن الإيمان فقط هو ما سيبعدهم. بعد شهرين قام والدي بتغير كل أبواب المنزل واستبدالهم بأبواب بيضاء. كان من المريح تماماً أن تختفي هذه الأبواب، و ظننت حينها أنني تخلصت من المخلوقات وأنني سأنام مرتاحاً. لكن كان هذه الإجراء متأخراً، الآن، أخبرتني والدتي أن هذه الكوابيس تزورها و أنها لها علاقة بالأبواب.

كلما كبرت، قرأت أكثر عن التباس الجمادات، كدمية أنابيل الشهيرة، وكيف أن الهنود آمنوا بأرواح شريرة تلتبس في الأغراض الخشبية. لكنني غالباً ما تجاهلت الشياطين حتى لم أعد أراهم. لم أعد أتكلم عن أي شيء شعرت به أو رأيته في المنزل. أقنعت نفسي أن الرعب الذي واجهته في طفولتي ما هو إلا نتاج مخيلةُ طفلٍ خصبة. عندما حان الوقت لأذهب إلى الجامعة كنا قد توقفنا عن الحديث عن الشياطين والأبواب والكوابيس منذ فترةٍ طويلة، مع أنني كنت أشعر بألم غريب في جسدي عندما كنت أقترب من باب حمام الطابق السفلي.

لاحقاً تطلق والديّ، وبقيت أمي تعيش في المنزل. بعد الجامعة عملت في مدينة بعيدة. لم أعد إلا عندما اتصل بي والدي وأخبرني عن الظروف الغريبة التي تلاحق موت والدتي، وكيف أنه قد لا يكون موتاً طبيعياً.

عدت إلى المنزل لأجد حيي القديم قد ضربه الركود الإقتصادي بقوة، كان الأن ذكرى قديمة للحي الذي ترعرت به، كانت الشوارع فارغة و مظلمة ولم يعد أيُ شيءٍ في مكانه. حتى منزل والديّ كان مختلفاً، كان يبدو قديماً ومهترئاً، ليس كما كان عندما كان أبي يعيش فيه. العشب كان طويلاً والرصيف متسخاً.

وقفنا أمام المنزل في تلك الليلة، بعد جنازة أمي، أخوتي، أبي وأنا. شرح لي أخوتي كيف كانت والدتنا مرهقة، تغير مزاجها كان عنيفاً ونومها لم يكن منتظماً. كانت تمضي أياماً طويلة بدون نوم ثم تنام عميقاً لعدة أيام. أخبرني أخي كيف أنه في إحدى الليالي المتأخرة وبعد إنتهاءه من العمل، كيف عاد لمنزل أمي ليطمئن عليها، كانت الساعة الثالثة صباحاً عندما وصل، دخل ووجد أمي في المطبخ تقوم بإعداد الفطور، أخبرها كيف أنها لم تعد تشعر بالوقت، وأنها تظن أنه الصباح. شرح لنا أخي كيف انها كانت تبدل بين الأدوية لعلاج الأرق الذي تواجهه، وقد ظن الأطباء أن تغيير مزاجها والإنتحار كانا من الأعراض الجانبية لهذه الأدوية.
أخبرتهم كيف أنني كنت أواجه صعوبة في النوم في منزلها، وأخبرتهم عن الشياطين والأبواب، لقد ضحكا، كانا صغيرين جداً ليتذكرا، أخبرتهم أنني نمت بشكل أفضل بعد أن استبدل أبي الأبواب، ولكنني لم أنم براحةٍ تامة إلا بعد أن غادرت المنزل للذهاب إلى الجامعة.
قاطعني أبي وأخبرني أنه لم يستبدل الأبواب أبداً، فقط قام بدهنها باللون الأبيض.

.............................................................................................................................................

تأليف: ماثيو ماسكيا.



Comments

Popular posts from this blog

بعض الأشياء المخيفة حقاً التي قالها الأطفال لأهاليهم - الجزء الأول

أخبرتك أن تبتسمي